قراءة في رؤية مايازاكي الأدبية
في خضم الحديث عن أفلام مايازاكي ذات الاقتباسات الأدبية، كان المحرك لهذه المقالة هو فيلم لوبان الثالث: قلعة كاليسترو، حيث أن لوبان الثالث، تلك السلسلة القديمة التليدة، حضرت في بال المبدع العظيم لكي يصنع منها واحداَ من أجمل إبداعاته. هذا الفيلم يمثل واحد من ثلاثة أعمال – الثاني هو شارلوك هولمز* والثالث فتى المستقبل كونان أو عدنان ولينا – تتضح بها رؤيته الأدبية. إن هذه الاعمال الثلاثة، عدنان ولينا، قلعة كاليسترو، وشارلوك هولمز، تمثّل قمة تجلي ميازاكي في التعاطي الادبي، السبب: شارلوك هولمز مثلاً كان مستقى تماماً من الرواية كأنه اختزال وتكثيف، العناوين هي ذات العناوين للقصص التي كتبها آرثر كونان دويل، نفس العلاقات التي تجمع الشخصيات بين بعضها (تبلد شارلوك وأحاسيسه، انبهار واطسون به، الكره المقيم لمورييارتي به، حتى غباوة ليسترد بقيت). اللهم حظي العمل بالمسحة الميازاكية المعتادة في الكوميديا والترميز لطبائع الشخصيات بالحيوان، الثعلب للمحقق والذئب للص والكلب للشرطي والخراف للنساء… إلخ، وبالتالي يصحّ القول فيه أنه اقتباس أدبي مباشر للعمل. أما عدنان ولينا أو فتى المستقبل كونان فهو الاقتباس الآتي بعد إرهاصات الحرب العالمية، حيث أن هذه الحرب ما زالت محفورة داخل الذاكرة الجماعية في الوجدان الياباني وكثيرٌ من الأعمال تتمحور حولها. كما أنه حافظ على روح الرواية وجوهرها (رواية المد الهائل لآلكسندر كي)، وهنا الاختلاف عن “شارلوك هولمز” في كمية المادة المستقاه من العمل، وإن كان لم يغيّر فيها كما قلت بل حافظ، ولكنه يشبه “هايدي” في ناحية تلبيس الفكرة، وهنا ندخل لعمل جديد كان له يد فيه مع رفيق دربه تاكاهاتا.
هايدي، وعلى العكس من كونان فتى المستقبل، التزم أكثر بروح العمل الأصلي، لكنه ألبسها فكرة التعاطي البشري مع الطبيعة و المدينة. بمعنى أنه أعطى مع رفيقه قرائتهما الخاصة لهذا العمل، وهي غير متوفرةٍ في عدنان ولينا. ولعل أبرز مثال واضحٍ لهذه النقطة هو السعادة المستمرة لهايدي في الريف وفي بيت جدها، مقارنةً بالغمّة التي تقتلها عند عودتها للمدينة بين جبات جدران البيوت وإن كانت فارهة عامرة. حتى كلارا تتعافى ولو روحياً في الريف، حيث أن الإنسان دوما يحنّ إلى أصلة ومنبته. في حالة فتى المستقبل كونان الأمر أقل حدةً من هذا. صحيحٌ أن الفكرة ربطت بحال اليابان بعد الحرب وكيف أن الحروب استمرت في المحيط القريب منها خلال الحرب الباردة، وأن البشر لا يتعلمون من أخطائهم – ذات الفكرة موجودة في الرواية – لكن تفاعل الشخصيات هنا نابعٌ من تفاعلهم داخل بيئة العمل نفسها دون دفع أكبر من ميازاكي تجاه اتجاهات أو أفكار محددة، وإن كان ملتزما بشكلٍ صارخ بفكرة الرواية الأم، ولهذا تشعر أن هنالك وطأة أقل لروح ورؤية المبدع. أما في لوبان الثالث في قلعة كاليسترو فكان التحدي هو استبدال شخصية البطل في الرواية الأم (أرسين لوبان الأصلي الذي ابتدعه موريس لبلان) بشخوصٍ اخرى (العصابة الربعية رفاق لوبان الحفيد) مع الحفاظ على كامل شخصية لوبان وإن وزّعت على رفاقة الأربعة، وربط كل هذا بعوالم محيطة سواء لآرسين لوبان نفسه أو موريس لبلان، إذ أن الأخير كان معاصراً لأرثر كونان دويل مبدع شارلوك هولمز وإيان فلمنغ مبدع جيمس بود، ولعلّ هذا يتضح في تفصيلات الفيلم التي ركز عليها، مثل نوع السيارات المستخدمة، طريقة القتال بالاسلحة، وغيرها من الأمثلة التي تناثرت داخل هذا الفيلم. هنا تظهر عظمة العمل والأعمال التي سبقت، ومن هنا أيضاً أشاد مخرجون كثر أمثال كوبولا وسبيلبرغ ولوكاس به.
أما عمله الأخير في مهب الريح فلا أعتبره اقتباساً من قصة تاتسو هوري، لأن مايازاكي هنا هو من يتحدث، القصة كانت مجرد ثوب ألبسه إياه ليتنكّر لكونه فيلم سيرة ذاتية، لكن الفيلم كان شخصياً جداً لدرجةٍ تشعرِك أنه يكاد يختفي صوت هيدياكي أنو ويظهر صوت هاياو ميازاكي نظراً لقوّة أوجه التطابق. هذا الهيام الكبير بالطائرات والإيطاليين وموضوع الحرب وغيرها مما نجده دوماً رفيقاً لميازاكي في رحلته الفنية لا تنفك عنه، ولعل مثالاً مشابها هنا يُحاكي ذات فكرة الاقتباس التي تخدم الموضوع ولا تلتزم بالعمل الأصلي هو ما فعله كريستفر نولان مع سلسلة أفلامه لباتمان، فهو صراع الخير والشر بلباس باتمان واعداءه و ليس اقتباساً للكوميك. من هنا أقول أن هذا الجهل بهذه الامور عند المشاهد يُنقص من إجلاله للعمل الفني، لأنه لا يعرف ربع هذه الاشياء التي تضفي على الصورة معاني جليلة كجلال معاني الكلمة خلف قصيدة الشاعر.
أخيراً أُرسل أجزل كلمات الشكر لتلك التي أحبّت غليون العجوز المدمى في حانته الصغيرة، هائما في أيامه وذكرياته.
بقلم رعد الجابر
* – يذكر أن شارلوك هولمز كان بإخراج مشترك مع كيوسوكي ميكوريا، وميازاكي شارك في بضعة حلقات في بداية العمل فقط، تسببت بعدها مشاكل حقوق ملكية الشخصية أعاقت الإنتاج في انتقال ميازاكي إلى مشروعٍ آخر. انظر ويكيبيديا.